الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **
ومهلك المرتضى وما كان في دولته من الأحداث لما ارتحل بنو مرين عن مراكش بعد مهلك أنعجوب فر من الحضرة قائد حروبه السيد أبو العلى الملقب بأبي دبوس بن السيد أبي عبد الله محمد بن السيد أبي حفص بن عبد المؤمن لسعاية تمكنت فيه عند المرتضى وصحبه ابن عمه السيد أبو موسى عمران بن عبد الله بن الخليفة فلحقا بمسعود بن كلداسن كبير هسكورة فأجاره. ثم لحق بيعقوب بن عبد الحق بفاس صريخاً به على شأنه واشترط له المقاسمة في العمالة والذخيرة فأمده بالمال يقال خمسة آلاف دينار عشرية. وأوعز إلى علي بن أبي علي الخلطي بمظاهرته وأعطاه الآلة. ورجع إلى علي بن أبي علي الخلطي فأمد بقومه. ثم سار إلى هسكورة ونزل على صاحبه مسعود بن كلداسن فأطاعه قبائل هسكورة وهزرجة. وبعث إليه عزوز بن يبورك كبير صنهاجة في ناحية أزمور وكان منحرفاً عن طاعة المرتضى إلى جملة يعقوب بن عبد الحق ووفد عليه جماعة من السادة والموحدين والجند والنصارى. وارتاب المرتضى بمسعود بن كانون شيخ سفيان وبإسماعيل بن قيطون شيخ بني جابر فتقبض عليهما واعتقلهما وصار الكثير من قومهما إلى أبي دبوس. وقتل إسماعيل بن قيطون في معتقله فانتقض أخوه ثائراً ولحق بهم وحذر علوش بن كانون مثلها على أخيه فاتبعهم وزحف أبو العلى إلى مراكش. ولما بلغ أغمات وجد بها الوزير أبا زيد بن بكيت في عسكر لحمايتها فناجزه الحرب فانهزم ابن بكيت وقتل عامة أصحابه. وسار أبو دبوس إلى مراكش وأغار علوش بن كانون على باب الشريعة والناس في صلاة الجمعة وركز رمحه بمصراعه. ودخلت سنة خمس وستين والمرتضى بمراكش غافل عن شأن أبي دبوس والأسوار خالية من الحراس والحامية فقصد أبو دبوس باب أغمات فتسور البلد من هنالك ودخلها على حين غفلة. وقصد القصبة فدخلها من باب الطبول وفر المرتضى ومعه الوزيران أبو زيد بن يعلو الكومي وأبو موسى بن عزوز الهنتاتي فلحقوا بهنتاتة وألفوهم قد بعثوا بطاعتهم فرحل إلى كدميوة ومر في طريقه بعلي بن زكداز الوتكاسي كان نزع إليه عن قومه ولم يفد عليه بعد فنزل به المرتضى ورحل معه علي بمن معه إلى كدميوة وكان فيها وزيره أبو زيد عبد الرحمن بن عبد الكريم فأراد النزول عليه فمنعه ابن سعد الله فسار إلى شفشاوة ووجد بها عدداً من الظهر فمنحها علي بن زكداز. وكتب إلى ابن وانودين بمسكره من حاحة. وإلى عطوش بمعسكره من ركراكة باللحاق به فأقلعا إلى الحضرة. وخاطب أبو دبوس علي بن زكداز يرغبه في القدوم عليه فارتاب المرتضى لذلك ولحق بأزمور فتقبض عليها واليها ابن عطوش. وكان أصهره واعتقله وطير الخبر إلى أبي دبوس فأمر وزيره السيد أبا موسى أن يكاتبه في كشف أماكن الذخيرة فأجابه بإنكار أن يكون ذخر شيئاً عندهم والحلف على ذلك. وسألهم بالرحم فعطف أبو دبوس عليه وجنح إلى الإبقاء. وبعث وزيره السيد أبا مسعود بن كانون في إزعاجه إليه. ثم بدا له في استحيائه بإشارة بعض السادات فكتب خاله إلى السيد أبي موسى بقتله واستقل أبو دبوس بالأمر وتلقب الواثق بالله والمعتمد على الله. واستوزر السيد موسى وأخاه السيد أبا زيد وبذل العطاء ونظر في الولايات ورفع المكوس عن الرعية وحدث بينه وبين مسعود بن كلداسن وحشة فارتحل إليه لإزالتها. وقدم عبد العزيز بن عطوش سفيراً إليه في ذلك. وبلغه أن يعقوب بن عبد الحق نزل تامستا فأوفد عليه حميدي بن مخلوف الهسكوري بهدية فقبلها وأكد بينهما العهد وانكفأ راجعاً إلى وطنه. ورجع حميدي إلى الواثق ووافق وصول عبد العزيز بن عطوش بطاعة مسعود بن كلداسن فرجع أبو دبوس إلى مراكش بعد أن عقد لأبي موسى بن عزوز على بلاد حاحة. وبلغه في طريقه عن عبد العزيز بن السعيد أنه حدث نفسه بالملك وإن ابن بكيت وابن كلداسن داخلوه في ذلك. وساءل عن ذلك السيد أبا زيد بن السيد أبي عمران خليفته وأخبره بما سمع وأمره بالقبض عليه وقتله فأنفذ ذلك. ثم ارتحل إلى السوس لتمهيده وحسم علل ابن يدر فيه. وقدم يحيى بن وانودين لاستنفار قبائل السوس من كزولة ولمطة وكنفيسة وصناكة وغيرهم وسار يتقرى المنازل ويستنفر القبائل ومر بتارودنت فوجدها قفراً خلاء إلا قلائل من الدور بخارجها. ونزل على حميدي صهر علي بن يدر وقريبه بحصن تيسخت على وادي السوس كان لصنهاجة فغلبهم عليه ابن يدر وملكه فنازله أبو دبوس وحاصره أياماً وهزم فيها جموعه وداخل حميدي علي بن زكداز في إفراج أبي دبوس على سبعين ألف دينار يؤديها إليه فأعجله الفتح عن ذلك ونجا بدمائه إلى بيته. وطولب بالمال وبقي معتقلا عند ابن زكداز وامتنع ابن يدر بحصنه. ثم أطاع ووصلت رسله بطاعته فانصرف الواثق إلى حضرته ودخلها سنة خمس وستين. وبلغه الخبر بانتقاض يعقوب بن عبد الحق وأنه زاحف إلى. . . فبعث بهديته إلى تلمسان صحبة أبي الحسن بن قطرال وابن أبي عثمان رسول يغمراسن وخرج بهم من مراكش ابن أبي مديون السكاسني دليلا. وسلك بهم على القفر إلى سجلماسة وبها يحيى بن يعمراسن فبعثهم مع بعض المعقل إلى أبيه فألفوه بجهة مليانة فأقام أبو قطرال بتلمسان ينتظره. وكان يعقوب بن عبد الحق لما بلغه ذلك نهض إلى مراكش بجيوش بني قرين وعسكر المغرب ونزل بضواحي مراكش وأطاعه أهل النواحي ونهض إليه أبو دبوس في عساكر الموحدين فاستجره يعقوب إلى وادي أغفو ثم ناجزه الحرب فاختل مصافه وغر عسكره وانهزم يريد مراكش والقوم في أتباعه فأدرك وقتل. وبادر يعقوب بن عبد الحق فدخل مراكش في المحرم فاتح سنة ثمان وستين وفر بقية المشيخة من الموحدين إلى معاقلهم بعد أن كانوا بايعوا عبد الواحد بن أبي دبوس وسموه المعتصم مدة خمسة أيام وخرج في جملتهم وانقرض أمر بني عبد المؤمن والبقاء لله وحده.
وأما هسكورة وهم أكثر قبائل المصامدة وفيهم بطون كثيرة أوسعها بطن هسكورة. وأما سواهم من بطون كنفيسة فأنفقتهم الدولة بما تولوا من مشايعتها وإبرام عقدتها فهلك رجالاتهم في إنفاقها سبل الأمم قبلهم في دولتهم. وأما هسكورة فكان لهم بين الموحدين مكان واعتزاز بكثرتهم وغلبهم إلا أنهم كانوا أهل بدو ولم يخالطوهم في ترفهم ولا أنعموا في نعيمهم. وكان جبلهم الذي أوطنوه من حالة دون القنة منها والذروة. واعتصموا منه بالآفاق الغدد واليفاع الأشم والطود الشاهق قد لمس الأفلاك بيده ونظم النجوم في مفرقه وتلفع بالسحاب في مروطه وآوى الرياح العواصف الدجوة وألقى إلى خبر السماء بإذنه وأظل على البحر الأخضر بشماريخه واستدبر القفر من بلاد السوس بظهره وأقام سائر جبال درن في حجره. ولما انقرض أمر الموحدين وتغلب بنو مرين على المصامدة أجمع وساموهم خطة الخسف في وضع الضرائب والمغارم عليهم فاستكانوا لعزهم وأعطوهم يد الطواعية واعتصم هسكورة هؤلاء بمعقلهم واعتزوا فيه بمنعتهم فلم يغمسوا في خدمتهم يداً ولا أعطوهم مقاداً ولا رفعوا بدعوتهم راية إنما هي منابذة لأمرهم وامتناع عليهم سائر الأيام. فإذا زحفت الحشود وتمرست بهم العساكر دافعوهم بطاعة معروفة وأتاوة غير ملتزمة ورئيسهم مع ذلك يستخلص جبايتهم لنفسه ويدفعهم في المضايق لحمايته وربما تخطاهم إلى بعض قبائل الجبل ومن قاربه من أهل بسائط السوس يعسكر بذلك للرجل من قومه هكسورة وكنفيسة وبالحشد من العرب الموطنين بأرض السوس. وسفيان وهم بطن الحارث ومن المعقل وهم بطن الشبانات وكان رئيسهم في ما ذكرنا - بعد انقراض عبد المؤمن بن يوسف وتحرير لسان الأعجمين - هو عبد الواحد وكان له في الاستبداد والصرامة ذكر. وهلك سنة ثمانين وستمائة وكان منتحلاً للعلم واعية له جماعة لكتبه ودواوينه حافظاً لفروع الفقه. يقال إن الأحاديث المدونة كانت من محفوظاته محباً في الفلسفة مطالعاً لكتبها حريصاً على نتائجها من علم الكيمياء والسيمياء والسحر والشعوذة مطلعاً على الشرائع القديمة والكتب المنزلة بكتب التوراة. ويجالس أحبار اليهود حتى لقد اتهم في عقيدته ورمي بالرغبة عن دينه. ثم ولي من بعده ابنه عبد الله وكان مقتفياً سنن أبيه في ذلك وخصوصاً في انتحال السحر والاستشراف إلى صنعة الكيمياء. ولما فرغ السلطان أبو حسن من شأن أخيه عمر وسكن فتنة المغرب ودوخ أقطاره وحل معتصمه بالعساكر وأوطأ ساحاته لكتائب رجاله دون من يمده من أعراب السوس من ورائه بما كان من تغلبه على بلادهم واقتضائه بطاعتهم وإنزال عماله بالعساكر بينهم فلاذ منه عبد الله السكسيوي بطاعة معروفة رهن فيها ابنه واشترط للسلطان الهدية والضيافة فتقبل ولما كانت نكبة السلطان بالقيروان واضطراب المغرب فتنة وخلا جو البلاد المراكشية من المشايخ اجتمع رأي الملأ من المصامدة على النزول إلى مراكش وأحكموا عقد الاتفاق بينهم وأجمعوا تخريبها بما كانت داراً للإمرة ولمقام الكتائب المجمرة وزعم عبد الله السكسيوي هذا بإنفاذ ذلك فيها وضمن هو تخريب المساجد لتجافيهم عنها فكانت مذكورة على الأيام. ثم انحل عزمهم وافترقت جماعتهم وكلمتهم بما كانت من استقامة الدولة بفاس واجتماع بني مرين على السلطان أبي عنان كما يذكر بعد فانحجر كل منهم بوجاره. ولما فرغ أبو عنان من شأن أبيه واستولى على المغرب الأوسط وغلب عليه بنو عبد الواد. ولحق أخوه أبو الفضل بن مطرح اغترابه في الأندلس بالطاعة يروم الإجازة إلى المغرب لطلب حقه فأركبه السفير إلى مراحل السوس فنزل به ولحق بعبد الله السكسيوي فأواه وظاهره على أمره. فجرد أبو عنان العزائم إليهم وعقد لوزيره فارس بن ميمون بن وادرار على حربهم. واستخرج جيوش المغرب وأناخ بساحته سنة أربع وخمسين واختط بسفح الجبل مدينة لحصاره سماها القاهرة. وأخذت بمخنقه وزاحت بمناكبها أركان معقله حتى لاذت للسلم واشترط أن ينبذ العهد إلى أبي الفضل المصري عنده يذهب حيث يشاء فتقبل منه وعقد له سلماً على عادته وأفرج عنه. وخرج على عبد الله السكسيوي لأيام السلطان أبي سالم ابنه محمد المعروف في لغتهم أيزم ومعناه الأسد فغلبه على أمره ولحق عبد الله بعامر بن الهنتاتي كبير المصامدة لعهده وعامل السلطان عليهم فاستجاش به ووعده عامر النصرة وأمهله عاماً ونصه حتى وفد على سلطان واستوهب في ذلك. ثم أجمع على نصره من عدوه فجمع له الناس وخاطب أهل ولايته أن يكون معه يداً. وزحف عبد الله حتى نزل بالقاهرة وأخذ بمخنق أبيه وأشياعه. ثم داخله بعض بطانته ودله على بعض العورات اقتحم منها الجبل وثاروا بابنه أيزم فصاح به عبد الله وقومه. وفر محمد أمامهم فأدرك بتلاسف من نواحي الجبل وقتل واسترجع عبد الله ملكه واستقلت قدمه إلى أن مكر به ابن عمه يحيى بن سليمان حين بلغ استبداد الوزير عمر بن عبد الله على سلطان المغرب واستبداد عامر بن محمد بولاية مراكش وثأر منه يحيى هذا بأبيه سليمان وهو عم عبد الله وكان قتله أيام إمارته الأولى. وأقام مملكاً على سكسيوة إلى سنة خمس وسبعين فثار عليه أبو بكر بن عمر بن خرو فقتله بأخيه عبد الله واستقل بأمر سكسيوة ومن إليهم. ثم خرج عليهم لأعوام من استقلاله ابن عم له من أهل بيته لم ينقل لي من تعريفه إلا أن اسمه عبد الرحمن لأن ثورته كانت بعد رحلتي الثانية من المغرب سنة ست وسبعين فأخبرني الثقة بأمره وأنه ظفر بأبي بكر بن عمر وقتله. واستبد بأمر الجبل إلى هذا العهد فيما زعم وهو سنة تسع وسبعين. ثم بلغني سنة ثمان وثمانين أن عبد الرحمن هذا ويعرف بأبي زيد بن مخلوف بن عمر آجليد قتله يحيى بن عبد الله بن عمر واستبد بأمر هذا الجبل وهو الآن مالكه وهو أخو أيزم بن عبد الله. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
وأبا بقية قبائل المصادمة من سوى هؤلاء السبع مثل هيلانة وحاحة ودكاكة وغيرهم ممن أوطن هضاب الجبل أو ساحته فهم أمم لا تنحصر. ودكالة منهم في ساحة الجبل من جانب الجوف مما يلي مراكش إلى البحر من جانب الغرب. وهناك رباط آسفي المعروف ببني ماكر من بطونهم وبين الناس اختلاف في انتسابهم في المصامدة أو صنهاجة وتجاورهم من جانب الغرب في بسيط ينعطف ما بين ساحل البحر وجبل درن في بسيط هناك يفضي إلى السوس يعمره من حاحة هؤلاء خلق أكثرهم في خمر الشعراء من الشجر المعروف بأرجان يتحصنون بملتفها وأدواحها ويعتصرون الزيت لأدامهم من ثمارها. وهو زيت شريف طيب اللون والرائحة والطعم يبعث منه العمال إلى في دار الملك في هداياهم فيطوفون به. وبآخر مواطنهم مما يلي أرض السوس وفي القبلة عن جبل درن دنست وبها معظم هذه الشعراء ينزلها رؤساؤهم ورياستهم في بطن منهم يعرفون بمغراوة وكان شيخهم لعهد السلطان أبي عنان إبراهيم بن حسين بن حماد بن حسين وبعده ابنه محمد بن إبراهيم بن حسين وبعده ابن عمهم خالد بن عيسى بن حماد. واستمرت رياسته عليهم إلى أعوام ست وسبعين وسبعمائة أيام استيلاء السلطان عبد الرحمن بن بطوسن على مراكش فقتله شيخ بني مرين علي بن عمر الورتاجي من بني ويغلان منهم وما أدري لمن صارت رياستهم من بعده وهم دكالة جميعاً أهل مغرم واسع وجباية موفورة فيما علمناه ولله الخلق والأمر وهو خير الوارثين. كان الواثق جهز لحرب أحد أمراء المصامدة فكان وزيره داخله في ذلك السيد أبا زيد بن السيد أبي عمران خليفته وأخبره بما سمع وأمره بالقبض عليه وقتله فأنفذ ذلك. ثم ارتحل إلى السوس لتمهيده وحسم هلال بن يدر فيه علله وقدم يحيى بن وانودين لاستنفار قبائل السوس من كزولة ولمطة وصناكة وغيرهم وسار يتعدى المنازل ويستنفر القبائل وهو بتارودنت فوجدها قفراً خلاء إلا قليلاً من الدور بخارجها. ونزل على حميدين صهر علي بن يدر وقريبه بحصن تيسخت على وادي السوس كان لصنهاجة فغلبهم عليه ابن يدر وملكه فنازله أبو دبوس وحاصره أياماً وهزم فيها جموعه. وداخل محمد بن علي بن زكدان في إفراج أبي دبوس على سبعين ألف دينار يؤديها إليه فأعجله الفتح من ذلك ونجا بدمائه إلى بيته وطولب بالمال وبقي معتقلاً عند ابن زكدان وامتنع علي بن يدر بحصنه ثم أطاع ووصلت رسله بطاعته فانصرف الواثق إلى حضرته ودخلها سنة خمس وستين وبلغه الخبر بانتقاض يعقوب بن عبد الحق وأنهى إليه فبعث بمرتبه إلى تلمسان صحبة أبي الحسن بن قطران وابن أبي عثمان رسول يغمراسن. خرج إليهم من مراكش ابن أبي مديون الونكاسي دليلاً وسلك بهم على الثغر إلى سجلماسة وبها يحيى بن يغمراسن فبعثهم مع بعض المعقل إلى أبيه وألفوه بجهة مليانة فأقام ابن قطرال بتلمسان ينتظره. وكان يعقوب بن عبد الحق لما بلغه ذلك نهض إلى مراكش بجيوش بني مرين ونزل بضواحي مراكش وأطاعه على النواحي ونهض إليه أبو دبوس بعساكر الموحدين فاستجرة يعقوب إلى وادي أعفر. ثم ناجزه الحرب فاختل مصافه وفر عسكره وانهزم يريد مراكش والقوم في أتباعه فأدرك وقتل. وبادر يعقوب بن عبد الحق فدخل مراكش في المحرم فاتح سنة ثمان وستين وفر بقية المشيخة من الموحدين إلى معاقلهم بعد أن كانوا بايعوا عبد الحق أحد بني أبي دبوس وسموه متصم مدة من خمسة أيام وخرج في جملتهم وانقرض مر بني عبد المؤمن والبقاء لله وحده.
الخبر عن بقايا قبائل الموحدين من المصامدة بجبال درن بعد انقراض دولتهم بمراكش وتصاريف أحوالهم لهذا العهد لما دعى المهدي إلى أمره في قومه من المصامدة بجبال درن وكان أصل دعوته نفي التجسيم الذي إليه مذهب أهل المغرب باعتمادهم ترك التآويل في المتشابه من الشريعة وصرح بتكفير من أبى ذلك أخذاً بمذهب التكفير بالمثال. فسمى لذلك دعوته دعوة التوحيد وأتباعه بالموحدين نعياً على الملثمين مثال مذاهبهم إلى اعتقاد الجسمية وخص بالمزية من دخل في دعوته قبل تمكنها وجعل علامة تمكنها فتح مراكش فكان إنما اختص بهذا اللقب أهل السابقة قبل ذلك الفتح. وكان أهل تلك السابقة. قبل فتح مراكش ثماني قبائل سبعة من المصامدة: هرغة وهم قبيلة الإمام المهدي وهنتاتة وتينملل وهم الذين بايعوه مع هرغة على الإجارة والحماية وكنفيسة وهزرجة وكدميرة ووريكة. وثمانية قبائل الموحدين: كومية قبيلة عبد المؤمن كبير صحابته دخلوا في دعوته قبل الفتح فكانت لهم المزية بسابقة عبد المؤمن وسابقتهم فاختص هؤلاء القبائل بمزية هذه السابقة واسمها. وقاموا بالأمر وحملوا سريره وأنفقوا في مذاهبه وممالكه في سائر الأقطار على نسبة قربهم من صاحب الأمر وبعدهم. وبقي من بقي منهم بجبالهم ومعاقلهم بقية حتوف. وجرت عليهم ذيل زناتة من بعد الملك أذيال الغلب والقهر حتى ألقوهم بالأتاوات وانتظموا في عداد الغارمين من الرعايا وصاروا يولون عليهم من زناتة ومن رجالاتهم أخرى وفي ذلك عبرة هرغة فأما هرغة وهم قبيل الإمام المهدي قد دثروا وتلاشوا وانتفقوا في القاصية من كل وجه لما كانوا أشد القوم بلاء في القيام بالدعوة وأصلاهم لنارها بقرابتهم من صاحبها وتعصبهم على أمره. ولم يبق منهم إلا أخلاط وأوشاب أمرهم إلى غيرهم من رجالات المصامدة لا يملكون عليهم منه شيئاً. تينملل وكذا تينملل إخوانهم في التعصب على دعوة المهدي والاشتمال عليه والقيام بأمره حتى تهيز إليهم وبنى داره ومسجده بينهم فكان حظهم من الفناء بمقدار حظهم من الاستيلاء وأبعدوا في ممالك الدولة وعمالاتها فانقرض رجالاتهم وملك غيرهم من المصامدة أمرهم عليهم وقبر الإمام بينهم لهذا العهد على حاله من التجلة والتعظيم وقراءة القرآن عليه أحتزاباً بالغدو والعشي وتعاهده بالزيارة وقيام الحجاب دون الزائرين من الغرباء لتسهيل الإذن واستشعار الأبهة وتقديم الصدقات بين أيدي زيارته على الرسم المعروف في احتفال الدولة وهم مصممون مع ذلك وكافة المصامدة أن الأمر سيعود وإن الدولة ستظهر على أهل المشرق والمغرب وتملأ الأرض كما وعدهم المهدي لا يشكون في ذلك ولا يستريبون فيه. وأما هنتاتة وهم تلو القبيلتين في الأمر وكل من بعدهم فإنما جاء على أثرهم وتبعاً لهم بما كانوا عليه من الكثرة والبأس ومكان شيخهم أبي حفص عمر بن يحيى من صحابة الإمام والاعتزاز على المصامدة. وكانت لهم بأفريقية دولة كما نذكره فأنفقت الدولتان منهم عوالم في سبيل الاستظهار بهم وبقي بموطنهم المعروف بهم من جبال درن وهو الجبل المتاخم لمراكش على توسط من الاستبداد والخضوع. ولهم في قومهم مكان بامتناع معقلهم وإطلاله على مراكش. ولما تغلب بنو مرين على المصامدة وقطعوا عنهم أسباب الدعوة كان لرؤسائهم أولاد يونس انحياش إليهم بما كانوا مسخوطين في آخر دولة بني عبد المؤمن فاختصوهم بالأثرة والمخالصة. وكان علي بن محمد كبيرهم لعهد السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق خالصة له من بين قومه. وهلك سنة سبع وسبعين على يد ابن الملياني الكاتب بكتاب لبس فيه وأنفذه عن السلطان لابنه أمير مراكش بقتل رهط من مشيخة المصامدة في اعتقاله كان منهم: علي بن محمد فقام السلطان لها في ركائبه وندم على ما فرط من أمره في إفلات ابن الملياني على ما نذكره من أمر هذه الواقعة في أخبار السلطان يوسف بن يعقوب. ولما ولي السلطان أبو سعيد وانقطع عن المصامدة ما كان لهم من أثر الملك والسلطان وانقادوا للدولة رجع بنو مرين إلى التولية عليهم من رجالاتهم وتداولوا بينهم في ذلك واختار السلطان بعد صدر من دولته موسى بن علي بن محمد للولاية على المصامدة وجبايتهم فعقد له وأنزله مراكش فاضطلع بهذه الولاية سنين رسخت فيها قدمه وأورثها أهل بيته وصار لهم بها في الدولة مكان انتظموا به في الولاية وترشحوا للوزارة. ولما هلك موسى عقد السلطان من بعده لأخيه محمد وأجراه على سننه إلى أن هلك فاستعمل السلطان بنيه في وجوه خدمته وعقد لعامر منهم على قومه. ولما ارتحل السلطان أبو الحسن إلى أفريقية صحبة عامر فيمن صحبه من أمراء المصامدة وكافة الوجوه حتى إذا كانت نكبة القيروان سنة تسع وأربعين وسبعمائة عقد له على الشرطة بتونس على رسم الموحدين من تنويه الخطة وسعة الرزق. واستنام إليه فيها فكفاه مهمها. ولما فصل من تونس ركب الكثير من حرمه وحظاياه السفن لنظر عامر هذا حتى إذا غرق الأسطول بالسلطان أبي الحسن بما أصابهم من عاصف الريح رمى الموج بالسفينة التي كانوا بها إلى المرية من ثغور الأندلس فأنزل بها كرائم السلطان لنظره وبعث عنهن ابنه أبو عنان المستبد على أبيه بملك المغرب فامتنع من إسلامهن إليه وفاء بأمانته في خدمتهم. وخلص السلطان أبو الحسن بعد النكبة البحرية إلى الجزائر سنة خمسين وزحف إلى بني عبد الواد ففلوه ونهض إلى المغرب وسلك إليه القفر حتى نزل بسجلماسة فقصده أبو عنان فخرج عنها إلى مراكش وقام بدعوته المصامدة وعرب جشم فاحتشد ولقي ابنه أبا عنان بجهات أم ربيع فكانت الدبرة عليه ونجا إلى جبل هنتاتة. وكان عبد العزيز بن محمد شيخاً عليهم منذ مغيب عامر وكان في جملته وخلص معه فأنزله عبد العزيز بداره وتدامر هو وقومه على إجارته والموت عونه فاعتصم بمعقلهم. وجاء السلطان أبو عنان في كافة بني مرين إلى مراكش فخيم بظاهرها واحتشد لحصارهم أشهراً حتى هلك السلطان أبو الحسن كما نذكره بعد فحملوه على الأعواد ونزلوا على حكم أي عنان فكرمهم ورعى لهم وسيلة هذا الوفاء وعقد لعبد العزيز على إمارته واستقدم عامراً كبيره من مكانه بالمرية فقدم بمن لأمانته من حظايا السلطان وحرمه فلقاه السلطان مبرة وتكريماً وأناله من اعتنائه حظاً. وتخلى له أخوه عبد العزيز عن الأمر فأقره نائباً. ثم عقد السلطان لعامر سنة أربع وخمسين على سائر المصامدة واستعمله لجبايتهم فقام بها مضطلعاً وكفاه مهم الأعمال المراكشية حتى عرف عناءه فيها وشكر له كفايته. وهلك السلطان أبو عنان واستبد على ابنه السعيد وزيره الحسن بن عمر الفودودي وكان ينفس عليه ما كان له من الترشيح للرتبة وبينهما في ذلك شحناء فخشي بادرته وخرج من مراكش إلى معقله في جبل هنتاتة وحمل معه ابن السلطان أبي عنان الملقب بالمعتمد. وكان أبوه عقد له يافعاً قبيل وفاته على مراكش لنظر عامر فخلص به إلى الجبل حتى إذا استوت قدم السلطان أبي سالم في الأمر واستقل بملك المغرب سنة ستين. وفد عليه عامر بن محمد مع رسله إليه وأوفد ابن أخيه محمد المعتمد فتقبل السلطان وفادته وشكر وفاءه وأقام ببابه مدة. ثم عقد له على قومه ثم استنفره معه إلى تلمسان ولم يزل مقيماً ببابه إلى قبيل وفاته فأنفذه لمكان إمارته. ولما هلك السلطان أبو سالم واستبد بالمغرب بعده عمر بن عبد الله بن علي على ما نذكره وكانت بينه وبين عامر بباب السلطان صداقة وملاطفة وصل يده بيده وأكد العهد معه على سد تلك الفرجة وعول عليه في حوط البلاد المراكشية وأن لا يؤتى من قبله وكان زعيماً بذلك وعقد له على الأعمال المراكشية وما إليها إلى وادي أم ربيع. وفوض إليه أمر تلك الناحية واقتسما المغرب شق الأبلمة وخلص إليه الأعياص من ولد السلطان أبي سعيد أبو الفضل بن السلطان أبي سالم وعبد المؤمن بن السلطان أبي علي فاعتقل عبد المؤمن وأمكن أبا الفضل من إمارته على ما نذكر بعد. وساءت الحال بينه وبين عمر ونهض إليه من فاس بجموع بني مرين وكافة العسكر واعتصم بجبلة وقومه واستبد على الأميرين عنده. وحل عبد المؤمن من معتقله يجاجئ به بني مرين لما كانوا يؤملون من ولايته واستبداده لما أسفهم من حجر الوزراء لملوكهم. فلما رأوا استبداد عامل عليه أعرضوا عنه وانعقد السلم بينه وبين عمر بن عبد الله على ما كان عليه من مقاسمته إياه في أعمال المغرب ورجع. واستقل عامر بناحية مراكش وأعمالها حتى إذا هلك عمر بن عبد الله بيد عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن كما نذكره حدثت أبا الفضل ابن السلطان أبي سالم نفسه بالهتك بعامر بن محمد كما فتك عمه بعمر بن عبد الله. ونذر بذلك فاحتمل كرائمه وصعد إلى داره بالجبل ففتك أبو الفضل بعبد المؤمن ابن عمه كان معتقلاً بمراكش. واستحكمت لذلك السفرة بينه وبين عامر بن محمد. وبعث إلى السلطان عبد العزيز فنهض من فاس في جموعه سنة تسع وستين. وفر أبو الفضل فلحق بتادلا وتقبض عليه عمه السلطان عبد العزيز وقتله كما نذكر في أخباره. وطلب عامراً في الوفادة فخشيه على نفسه واعتصم بمعقله فرجع إلى حضرته واستجمع عزائمه. وعقد على مراكش وأعمالها لعلي بن أجانا من صنائع دولتهم وأوعز إليه بمنازلة عامر فدافعه عامر وقومه عن معتصمه وأوقع به وتقبض على طائفة من بني مرين وصنائع السلطان في المعركة أودعهم سجنه فحرك بها عزائم السلطان ونهض إليه في قومه من بني مرين وعساكر المغرب وأحاط به ونازله حولا كريتا. ثم تغلب عليه سنة إحدى وسبعين وانفضت جموعه. وتقبض عليه عند اقتحام فسيق أسيراً إلى السلطان فقيده وقفل به إلى الحضرة. ولما قضى نسك الفطر من سنته أحضره ووبخه. ثم أمر به فتل إلى مصرعه وامتحن جلداً بالسياط وضرباً بالمقارع حتى فاض عفى الله عنه. وعقد السلطان على قومه لفارس ابن أخيه عبد العزيز كان نزع إليه بين يدي مهلك عمه وعفا عن ابنه أبي يحيى بسابقته إلى الطاعة قبيل اقتحام الجبل عليهم أشار عليه بذلك أبوه نظراً له فظفر من السلامة بحظ وأصاره السلطان في جملته. ثم هلك بعد ذلك فارس بن عبد العزيز واضطرم المغرب فتنة بعد مهلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين. وصارت أعمال مراكش في إيالة السلطان عبد الرحمن بن علي الملقب بأبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي. ونزع إليه أبو يحيى بن عامر فعقد له على قومه. ثم اتهمه باحتجاز الأموال منذ عهد أبيه وشره إلى استصفائه ونفر به ابن عامر فلحق ببعض قبائل المصامدة جيرانهم بأطراف السوس ونزل عليهم. وكان مهلكه فيهم أعوام ثمانين وسبعمائة والله وارث الأرض ومن عليها.
وأما كدميوة وكانوا تبعاً لهنتاتة وتينملل في الأمر وجبلهم لصق جبل هنتاتة. وكان رؤساؤهم لعهد الموحدين بنو سعد الله. ولفا تغلب بنو مرين على المصامدة ووضعوا عليهم الضرائب وامتنع يحيى بن سعد الله بعض الشيء بحصن تافركا وتيسخت من جبلهم وخالفه عبد الكريم بن عيسى وقومه إلى طاعة بني مرين واختلفت إليهم العساكر إلى أن هلك يحيى بن سعد الله سنة أربع وتسعين وستمائة وعساكر يوسف بن يعقوب مجهزة على حصاره فهدموا حصونه وأذلوا من قومه. واستخلص السلطان يوسف بن يعقوب عبد الكريم بن عيسى منذ عهد أبيه فعقد له عليهم. ثم تقبض على أمراء المصامدة واعتقله فيمن اعتقل منهم حتى إذا فعل ابن الملياني فعلته في استهلاكهم لعداوة عمه بتلبيس الكتاب على لسان السلطان لابنه على أمير مراكش فقتل عبد الكريم فيمن قتل منهم وقتل معه بنوه عيسى وعلي ومنصور وابن أخيه عبد العزيز بن محمد. وامتعض السلطان لذلك وأفلت ابن الملياني من عسكره لحصار تلمسان فدخلها. ثم قام بأمر كدميوة عبد الحق بن. . من بيت بني سعد الله أيام السلطان أبي الحسن وابنه أبي عنان. وكانت بينه وبين عامر بن محمد فتنة جرها لصق العمالة شأن المجتورين من القبائل وقديم العداوة بين السلف. فلما استفحل أمر عامر بالولاية على مراكش وسائر المصامدة نبذ إلى عبد الحق العهد ونحلة الخلاف والمداخلة للسكسيوي شيخ الفتنة المستعصي منذ أول الدولة فصمد إليه سنة سبع وخمسين وسبعمائة في قومه ومسالح السلطان التي كانت بمراكش لنظره فافتتح عليه معقله عنوة وقتله. واستولى على كدميوة ولحق بنو سعد الله بفاس وأقاموا بها حتى إذا خاض السلطان أبو سالم البحر إلى ملكة بعد أخيه أبي عنان ونزل بغمارة نزع إليه يوسف بن سعد الله واعتقد منه ذمة بسابقته تلك. فلما استولى على البلد الجديد واستقل بسلطانه عقد له على قومه رعياً لوسيلته فأقام في ولايته مدة السلطان أبي سالم. وكان عامل مراكش محمد بن أبي العلى من حاشية السلطان. وبيوت الولاة بالمغرب معولا فيها على مظاهرته. ولما هلك السلطان أبو سالم واستبد عمر بن عبد الله على الملوك بعده بادر لحين ثورته بالعقد لعامر على أعمال مراكش ليستظهر به وطير إليه الكتاب بذلك فنزل إلى مراكش وقتل بها يوسف بن سعد الله ونكب بأبي العلى ثم قتله وألحقه بأبي عبد الحق. وذهبت الرئاسة من كدميوة برهة من الدهر ثم رجعت إليهم في بني سعد الله والله قادر على ما يشاء وبيده تصاريف الأمور.
|